موسوعة الأخلاق والسلوك

د- نَماذِجُ مِن قوَّةِ السَّلَفِ في الحَقِّ


1- كتَب عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ إلى أهلِ الموسِمِ: (أمَّا بعدُ: فإنِّي أُشهِدُ اللَّهَ، وأبرأُ إليه في الشَّهرِ الحرامِ والبَلَدِ الحرامِ ويومِ الحَجِّ الأكبَرِ، أنِّي بريءٌ مِن ظُلمِ مَن ظَلَمَكم، وعُدوانِ من اعتدى عليكم، أن أكونَ أَمَرْتُ بذلك أو رَضِيتُه أو تعمَّدْتُه، إلَّا أن يكونَ وهمًا منِّي، أو أمرًا خَفِيَ عليَّ لم أتعَمَّدْه، وأرجو أن يكونَ ذلك موضوعًا عنِّي، مغفورًا لي، إذا عَلِم منِّي الِحرصَ والاجتِهادَ، ألا وإنَّه لا إذنَ على مَظلومٍ دوني، وأنا مُعَوَّلُ كُلِّ مَظلومٍ، ألَا وأيُّ عامِلٍ مِن عُمَّالي رَغِبَ عنِ الحَقِّ ولم يعمَلْ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، فلا طاعةَ له عليكم، وقد صَيَّرتُ أمرَه إليكم، حتَّى يُراجِعَ الحَقَّ، وهو ذَميمٌ، ألَا وإنَّه لا دُولةَ بَينَ أغنيائِكم، ولا أثَرةَ على فُقَرائِكم في شَيءٍ مِن فيئِكم، ألَا وأيُّما وارِدٍ ورَدَ في أمرٍ يُصلِحُ اللَّهُ به خاصًّا أو عامًّا مِن هذا الدِّينِ، فله ما بَينَ مِئَتَي دينارٍ إلى ثَلاثِمِئةِ دينارٍ على قَدْرِ ما نَوى مِنَ الحَسَنةِ، وتَجَشَّمَ مِنَ المَشَقَّةِ، رَحِمَ اللَّهُ امرَأً لم يتعاظَمْه سَفَرٌ يُحيي اللَّهُ به حَقًّا لمَن وراءَه، ولَولا أن أشغَلَكم عن مَناسِكِكم لَرَسَمتُ لَكم أُمورًا مِنَ الحَقِّ، أحياها اللَّهُ لَكم، وأُمورًا مِنَ الباطِلِ أماتَها اللَّهُ عنكم، وكان اللَّهُ هو المُتَوحِّدَ بذلك، فلا تَحمَدوا غَيرَه؛ فإنَّه لَو وكلَني إلى نَفسي كُنتُ كغَيري، والسَّلامُ عليكم) [7841] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم الأصفهاني (5/ 292). . فهذا عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ وهو خَليفةُ المُسلمينَ آثَرَ أن يكونَ قَويًّا في الحَقِّ حتَّى على نَفسِه وعلى مَن تَحتَ يدَيه مِنَ الأُمَراءِ والوُلاةِ، وشَجَّعَ النَّاسَ على أن يكونوا أقوياءَ في الحَقِّ، وأن يُحيوا صَحيحَ الدِّينِ ويُميتوا البِدَعَ، وأن يُبَلِّغوه بما يُصلِحُ أمرَ الدِّينِ ويُزيلُ فسادَ النَّاسِ.
2- (ولمَّا دَخَلَ عَبدُ اللَّهِ بنُ عَليٍّ دِمَشقَ، وسَلب المُلكَ مِن بَني أُمَيَّةَ تَطلَّب الأوزاعيَّ، فتَغيَّب عنه ثَلاثةَ أيَّامٍ، ثُمَّ أُحضِرَ بَينَ يدَيه، قال: دَخَلتُ عليه وهو على سَريرٍ وفي يدِه خَيزُرانةٌ، والمُسودةُ عن يمينِه وشِمالِه، مَعَهمُ السُّيوفُ مُصلَتةً والعُمُدُ الحَديدُ! فسَلَّمتُ فلم يَرُدَّ، ونَكَت بتلك الخَيزُرانةِ التي في يدِه، ثُمَّ قال: يا أوزاعيُّ، ما تَرى فيما صَنَعْنا مِن إزالةِ أيدي أولئك الظَّلَمةِ، أرِباطٌ هو؟ قال: فقُلتُ: أيُّها الأميرُ، سَمِعتُ يحيى بنَ سَعيدٍ الأنصاريَّ يقولُ: سَمِعتُ مُحَمَّدَ بنَ إبراهيمَ التَّيميَّ يقولُ: سَمِعتُ عَلقَمةَ بنَ وقَّاصٍ يقولُ: سَمِعتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ يقولُ: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: "إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرِئٍ ما نَوى، فمَن كانت هجرَتُه إلى اللَّهِ ورَسولِه فهِجرتُه إلى اللَّهِ ورَسولِه، ومَن كانت هِجرتُه لدُنيا يُصيبُها أوِ امرَأةٍ يتَزَوَّجُها، فهِجرتُه إلى ما هاجَرَ إليه" [7842] أخرجه من طريق الأوزاعي: الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (40)، وتمام في ((الفوائد)) (487)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (35/220) باختلافٍ يسيرٍ. والحديثُ أصلُه في البخاري (3898)، ومسلم (1907) باختلافٍ يسيرٍ، من طريقِ يحيى بنِ سعيدٍ. ،قال: فنَكَت بالخَيزُرانةِ أشَدَّ مِمَّا كان ينكُتُ، وجَعَلَ مَن حَولَه يعَضُّونَ أيديَهم، ثُمَّ قال: يا أوزاعيُّ، ما تَقولُ في دِماءِ بَني أُميَّةَ؟ فقُلتُ: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "لا يحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلمٍ إلَّا بإحدى ثَلاثٍ: النَّفسُ بالنَّفسِ، والثَّيِّبُ الزَّاني، والتَّارِكُ لدينِه المُفارِقُ للجماعةِ" [7843] أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مسلمٍ: ((لا يحِلُّ دَمُ امرئٍ مُسلمٍ يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأني رسولُ اللهِ إلَّا بإحدى ثلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، والنَّفسُ بالنَّفسِ، والتَّارِكُ لدينِه المفارِقُ للجماعةِ)). ، فنكت أشَدَّ مِن ذلك، ثُمَّ قال: ما تَقولُ في أموالِهم؟ فقُلتُ: إن كانت في أيديهم حَرامًا فهي حَرامٌ عليك أيضًا، وإن كانت لهم حَلالًا فلا تَحِلُّ لَك إلَّا بطَريقٍ شَرعيٍّ! فنَكَت أشَدَّ مِمَّا كان ينكُتُ قَبلَ ذلك، ثُمَّ قال: ألَا نولِّيك القَضاءَ؟ فقُلتُ: إنَّ أسلافَك لم يكونوا يشُقُّونَ عليَّ في ذلك، وإنِّي أُحِبُّ أن يتِمَّ ما ابتدؤوني به مِنَ الإحسانِ. فقال: كأنَّك تُحِبُّ الانصِرافَ؟ فقُلتُ: إنَّ ورائي حُرَمًا، وهم مُحتاجونَ إلى القيامِ عليهم وسَترِهم. قال: وانتَظَرتُ رَأسي أن يَسقُطَ بَينَ يدَيَّ! فأمَرَني بالانصِرافِ، فلَمَّا خَرَجتُ إذا رَسولُه مِن ورائي، وإذا مَعَه مِائَتا دينارٍ، فقال: يقولُ لَك الأميرُ: أنفِقْ هذه. قال: فتَصَدَّقتُ بها، وكان في تلك الأيَّامِ الثَّلاثةِ صائِمًا طاويًا، فيُقالُ: إنَّ الأميرَ لمَّا بَلَغَه ذلك عَرض عليه الإفطارَ عِندَه، فأبى أن يُفطِرَ عِندَه!) [7844] ((البداية والنهاية)) لابن كثير (13/ 450). .
قال الذَّهبيُّ مُعَلِّقًا: (قد كان عبدُ اللهِ بنُ عَليٍّ مَلِكًا جبَّارًا سفَّاكًا للدِّماءِ، صَعبَ المِراسِ، ومع هذا فالإمامُ الأوزاعيُّ يَصدَعُه بمُرِّ الحقِّ كما ترى، لا كخُلُقٍ من عُلَماءِ السُّوءِ الذين يحسِّنون للأمراءِ ما يقتَحِمون به من الظُّلمِ والعَسفِ، ويَقلِبون لهم الباطِلَ حَقًّا -قاتلهم اللهُ- أو يَسكُتون مع القُدرةِ على بيانِ الحَقِّ!) [7845] ((سير أعلام النبلاء)) (7/ 125). .
3- (قال أبو العَرَبِ: اجتَمَعَت في سُحنونَ خِلالٌ قَلَّما اجتَمَعَت في غَيرِه: الفِقهُ البارِعُ، والوَرَعُ الصَّادِقُ، والصَّرامةُ في الحَقِّ، والزَّهادةُ في الدُّنيا، والتَّخَشُّنُ في المَلبَسِ والمَطعَمِ، والسَّماحةُ، كان رُبَّما وصَلَ إخوانَه بالثَّلاثينَ دينارًا، وكان لا يقبَلُ مِن أحَدٍ شَيئًا، ولم يكُنْ يهابُ سُلطانًا في حَقٍّ، شَديدًا على أهلِ البدَعِ، انتَشَرَت إمامَتُه، وأجمَعوا على فَضلِه) [7846] يُنظَر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (12/ 69). .
4- مَوقِفُ أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ مِن فِتنةِ القَولِ بخَلقِ القُرآنِ: إذ شَهِدَت حَياتُه وِلايةَ المَأمونِ الخِلافةَ سَنةَ (198هـ)، الذي مالَ إلى رَأيِ المُعتَزِلةِ بالقَولِ إنَّ القُرآنَ مَخلوقٌ؛ بسَبَبِ تَقريبِه لأهلِ البدَعِ والاعتِزالِ، مِن أمثالِ أحمَدَ بنِ أبي دُؤادَ، الذي كان رَأسَ الفِتنةِ، وأيَّدَه المَأمونُ في بدعَتِه وأخَذَ يعمَلُ جاهدًا في نَشرِ الاعتِزالِ طَوالَ تِسعَ عَشرةَ سَنةً، دونَ أن يحمِلَ النَّاسَ على ذلك بقوَّةِ السُّلطانِ، فلَمَّا دَخَلَت سَنةُ ثَماني عَشرةَ ومِائَتَينِ مِنَ الهجرةِ، دَعا النَّاسَ إلى القَولِ بها، وامتَحَنَهم عليها مُهَدِّدًا مُتَوعِّدًا، فأجابَه إلى ما طَلَبَ عُلَماءُ كثيرونَ مُكرَهينَ، منهم: مُحَمَّدُ بنُ سَعدٍ كاتِبُ الواقِديِّ، ويحيى بنُ مَعينٍ، وأبو خثيمةَ، وأبو مُسلمٍ المُستَملي، وإسماعيلُ بنُ داوُد الجَوزيُّ، وأحمَدُ الدَّورَقيُّ، وابنُ أبي مَسعودٍ، ولم يَبقَ على الحَقِّ إلَّا أقَلُّ القَليلِ، في مُقدِّمَتِهم أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ الذي لم يجِبِ المَأمونَ إلى ما طَلَبَ، ولَكِنَّ المَأمونَ لم يطُلْ به العُمرُ، فجاءَ مِن بَعدِه أخوه الخَليفةُ "المُعتَصِمُ"فسارَ على نَفسِ مَنهَجِه في الفِتنةِ، فضُرِبَ الإمامُ أحمَدُ بَينَ يدَيه ضَربًا شَديدًا، حتَّى أشرَف على المَوتِ، ولكِنَّه لم يتَراجَعْ عنِ الحَقِّ، بل ظَلَّ مُتَمَسِّكًا به، وناظَرَه عُلَماءُ المُعتَزِلةِ، فلم يزِدْ على الاستِدلالِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ في الرَّدِّ على شُبُهاتِهم المَبنيَّةِ على الخَطَأِ في فَهمِ القُرآنِ والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ، وسَجنَه المُعتَصِمُ، ثُمَّ ماتَ المُعتَصِمُ وخَلَفَه الخَليفةُ العَبَّاسيُّ "الواثِقُ"واستَمَرَّ الابتِلاءُ؛ حَيثُ ألزَمَ أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ بالبَقاءِ في دارِه وأن لا يخرُجَ إلى الصَّلاةِ ولا إلى الجُمُعةِ والجَماعاتِ، فلمَّا ماتَ الواثِقُ وتَولَّى مِن بَعدِه "المُتَوكِّلُ"خالَف مَن سَبَقوه؛ أظهَرَ القَولَ الحَقَّ بأنَّ القُرآنَ كلامُ اللَّهِ غَيرُ مَخلوقٍ، وكَشَف عنِ الأُمَّةِ ما كانت فيه مِنَ الغُمَّةِ، وأطلَقَ أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ مِن سِجنِه، وأحسَن إليه وأكرَمه، ولَكِن كانت قوَّةُ أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ في الحَقِّ وثَباتُه عليه، وتَمَسُّكُه بمَنهَجِ السَّلَفِ في الاستِدلالِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، وتَقديمِ النَّقلِ على العَقلِ: مِن أهَمِّ أسبابِ وَأدِ الفِتنةِ وإعادةِ نَشرِ السُّنَّةِ والمَنهَجِ الحَقّ في الأُمَّةِ [7847] يُنظَر: ((محنة الإمام أحمد)) للمقدسي (ص: 39 - 69)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (14/ 396)، ((المحنة وأثرها في منهج الإمام أحمد النقدي)) (ص:12 - 19) بتصرف. ؛ولهذا قال عَليُّ بنُ المَدينيِّ: (إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أعَزَّ هذا الدِّينَ برَجُلَينِ، ليس لهما ثالِثٌ: أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ يومَ الرِّدَّةِ، وأحمَدُ بنُ حَنبَلٍ يومَ المِحنةِ) [7848] ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (4/ 205)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (7/ 143، 144). .
- وقال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (ابنُ أبي ذِئبٍ ثِقةٌ، قد دَخَلَ على أبي جَعفَرٍ المَنصورِ فلم يُمهِلْه أن قال له الحَقَّ، وقال: الظُّلمُ ببابِك فاشٍ، وأبو جَعفَرٍ أبو جَعفَرٍ!) [7849] ((سير أعلام النبلاء)) (7/ 144). ويُنظَر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 347، 348). .
- وقال ابنُ أبي ذِئبٍ للمَنصورِ: قد هَلَك النَّاسُ، فلو أعنْتَهم مِنَ الفَيءِ؟ قال: ويلَك لولا ما سَدَدتُ مِنَ الثُّغورِ لكُنتَ تُؤتى في مَنزِلِك فتُذبَحُ! فقال: قد سَدَّ الثُّغورَ وأعطى النَّاسَ مَن هو خَيرٌ منك: عُمَرُ! فنَكَّسَ المَنصورُ رَأسَه، والسَّيفُ بيَدِ المُسَيِّبِ، ثُمَّ قال: هذا خَيرُ أهلِ الحِجازِ [7850] يُنظَر: ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (ص: 227). !

انظر أيضا: