موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- عِندَ الأنبياءِ والمُرسَلينَ


لقد نال الأنبياءَ والمُرسَلين من قومِهم الأذى الشَّديدُ، ولكِنَّهم صبَروا على ما لَقُوه من المكارهِ وواصَلوا مهِمَّتَهم بالعَزمِ والإصرارِ، وقد أشاد القرآنُ بعَزمِهم الصَّادِقِ في قَولِه: اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] .
وأولو العَزمِ من الرُّسُلِ: هم الذين صبروا وجَدُّوا في سبيلِ دعوتِهم [6638]((المعجم الوسيط)) (2/599). .
ولمَّا سُئِل النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((أيُّ النَّاسِ أشَدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ)) [6639]أخرجه الترمذي (2398)، وابن ماجه (4023)، وأحمد (1555) من حديثِ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذي، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (7/146)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2398)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (7/5)، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (377). ؛ فقد خَصَّ اللهُ أنبياءَه بذلك بحسَبِ ما خصَّهم به من قوَّةِ العَزمِ والصَّبرِ والاحتسابِ؛ ليَتِمَّ لهم الخيرُ، ويَعظُمَ لهم به الأجرُ [6640]((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (8/ 40، 41). .
نَبيُّ اللَّهِ إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
قال اللهُ تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] .
(فلَمَّا اغتَبَطَ إبراهيمُ بهذا المَقامِ وأدرَك هذا، طَلَب ذلك لذُرِّيَّتِه؛ لتَعلوَ دَرَجَتُه ودَرَجةُ ذُرِّيَّتِه، وهذا أيضًا مِن إمامَتِه ونُصحِه لعِبادِ اللَّهِ، ومَحَبَّتِه أن يَكثُرَ فيهمُ المُرشِدونَ، فللَّهِ عَظَمةُ هذه الهمَمِ العاليةِ، والمَقاماتِ السَّاميةِ!) [6641] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 65). .
نبيُّ اللهِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا  [الكهف: 60] .
(يخبِرُ تعالى عن نبيِّه موسى عليه السَّلامُ، وشِدَّةِ رغبتِه في الخيرِ وطَلَبِ العِلمِ، أنَّه قال لخادِمِه: لا أزالُ مُسافِرًا وإن طالت علَيَّ الشُّقَّةُ، ولحِقَتْني المشقَّةُ، حتى أصِلَ إلى مجمَعِ البحرينِ، وهو المكانُ الذي أوحيَ إليه أنَّك ستجِدُ فيه عبدًا من عبادِ اللهِ العالِمين، عندَه من العِلمِ ما ليس عندَك أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا أي: مسافةً طويلةً، وهذا عزمٌ منه جازمٌ؛ فلذلك أمضاه) [6642] انظر: ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص480، 481). ، ولم يمنَعْه من الاستمرارِ في رحلتِه قَولُه: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا أي: تعَبًا، وكذلك لم يَثْنِ عَزمَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهم أخطؤوا الطَّريقَ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف: 64-66] .
وسَبَبُ رِحلةِ نبيِّ اللهِ موسى لطَلَبِ العلمِ أنَّه ((بينما موسى في ملأٍ من بني إسرائيلَ جاءه رجُلٌ فقال:هل تعلَمُ أحَدًا أعلَمَ منك؟ قال موسى: لا. فأوحى اللهُ عزَّ وجَلَّ إلى موسى: بلى، عَبدُنا خَضِرٌ. فسأل موسى السَّبيلَ إليه، فجَعَل اللهُ له الحوتَ آيةً، وقيل له:إذا فقَدْتَ الحوتَ فارجِعْ؛ فإنَّك ستَلْقاه)) [6643] رواه مطوَّلًا البخاري (74) واللفظ له، ومسلم (2380) من حديثِ أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ اللَّهَ سُبحانَه أخبَرَنا عن صَفيِّه وكَليمِه الذي كتَبَ له التَّوراةَ بيدِه وكلَّمَه منه إليه أنَّه رَحَلَ إلى رَجُلٍ عالمٍ يتَعَلَّمُ منه ويزدادُ عِلمًا إلى عِلمِه، فقال: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف: 60] ؛ حِرصًا مِنه على لقاءِ هذا العالِمِ وعلى التَّعَلُّمِ مِنه، فلَمَّا لَقِيَه سَلَك مَعَه مَسلَكَ المُتَعَلِّمِ مَعَ مُعَلِّمِه، وقال له: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: 66] فبَدَأه بَعدَ السَّلامِ بالاستِئذانِ على مُتابَعَتِه، وأنَّه لا يَتبَعُه إلَّا بإذنِه، وقال: عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، فلم يجِئْ مُمتَحِنًا ولا مُتَعنِّتًا، وإنَّما جاءَ مُتَعَلِّمًا مُستَزيدًا عِلمًا إلى عِلمِه، وكفى بهذا فضلًا وشَرَفًا للعِلمِ! فإنَّ نَبيَّ اللَّهِ وكَليمَه سافرَ ورَحَلَ حتَّى لَقيَ النَّصبَ مِن سَفرِه في تَعَلُّمِ ثَلاثِ مَسائِلَ مِن رَجُلٍ عالمٍ، ولَمَّا سَمِعَ به لم يَقَرَّ له قَرارٌ حتَّى لَقِيَه وطَلَبَ مِنه مُتابَعَتَه وتَعليمَه) [6644] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/ 55). .
نبيُّ اللهِ يوسُفُ عليه السَّلامُ:
قال تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف: 50] ، وإنَّما فعل يوسُفُ عليه السَّلامُ ذلك؛ لئلَّا يكونَ سبيلُه سبيلَ المذنِبِ يُمَنُّ عليه بالعفوِ، وأراد أن يقيمَ الحُجَّةَ عليهم في حبسِهم إيَّاه ظُلمًا، وقد أثنى عليه النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بحُسنِ الصَّبرِ وقُوَّةِ العَزمِ والتَّواضُعِ [6645]((أعلام الحديث)) للخطابي (3/1546، 1547). ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ولو لَبِثتُ في السِّجنِ طولَ ما لَبِثَ يوسُفَ، لأجبتُ الدَّاعيَ) [6646]أخرجه البخاري (3372) واللفظ له، ومسلم (151). .

انظر أيضا: