موسوعة الأخلاق والسلوك

ثاني عَشَرَ: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ 


أسماءٌ مُرادِفةٌ للصَّمتِ:
(تركُ الكلامِ له أربعةُ أسماءٍ:
1- الصَّمتُ، وهو أعمُّها، حتى إنَّه يستعمَلُ فيما ليس يقوى على النُّطقِ، كقولِهم: (مالٌ ناطِقٌ أو صامِتٌ).
2- والسُّكوتُ، وهو تركُ الكلامِ ممَّن يقدِرُ على الكلامِ.
3- والإنصاتُ، هو السُّكوتُ مع استماعٍ؛ قال تعالى: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف:204] .
4- والإصاخةُ، وهو الاستماعُ إلى ما يَصعُبُ إدراكُه، كالسِّرِّ، والصَّوتِ من المكانِ البعيدِ) [6108] ((غرائب القرآن ورغائب الفرقان)) للنيسابوري (4/537). ويُنظَر: ((مفاتيح الغيب)) للرازي (22/ 43). .
أهميَّةُ لُزومِ الصَّمتِ:
(يَدُلُّك على فضلِ لُزومِ الصَّمتِ أمرٌ، وهو أنَّ الكلامَ أربعةُ أقسامٍ: قِسمٌ هو ضَرَرٌ مَحضٌ، وقسمٌ هو نفعٌ محضٌ، وقسمٌ فيه ضَرَرٌ ومنفعةٌ، وقسمٌ ليس فيه ضرَرٌ ولا منفعةٌ.
أمَّا الذي هو ضرَرٌ محضٌ: فلا بدَّ من السُّكوتِ عنه، وكذلك ما فيه ضرَرٌ ومنفعةٌ لا تفي بالضَّرَرِ.
وأمَّا ما لا منفعةَ فيه ولا ضَرَرَ: فهو فُضولٌ، والاشتغالُ به تضييعُ زمانٍ، وهو عينُ الخُسرانِ، فلا يبقى إلَّا القِسمُ الرَّابعُ، فقد سقط ثلاثةُ أرباعِ الكلامِ وبقِيَ رُبعٌ، وهذا الرُّبعُ فيه خَطَرٌ؛ إذ يمتزجُ بما فيه إثمٌ من دقائِقِ الرِّياءِ والتَّصنُّعِ والغِيبةِ وتزكيةِ النَّفسِ وفُضولِ الكلامِ امتزاجًا يخفى دَركُه، فيكونُ الإنسانُ به مخاطِرًا، ومَن عَرَف دقائِقَ آفاتِ اللِّسانِ... عَلِم قطعًا أنَّ ما ذكره صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو فَصلُ الخِطابِ؛ حيثُ قال: ((مَن صَمَت نجا)) [6109] رواه الترمذي (2501)، وأحمد (6481) من حديثِ عبد اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2501)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6481)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/140)، ووثَّق رواتَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/343)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (11/315). . فلقد أوتيَ -واللهِ- جواهِرَ الحِكَمِ قَطعًا، وجوامِعَ الكَلِمِ، ولا يَعرِفُ ما تحتَ آحادِ كَلِماتِه من بحارِ المعاني إلَّا خواصُّ العُلَماءِ) [6110] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/111-112). .
صومُ الصَّمتِ:
وهو الامتناعُ عن الكلامِ فلا يتكَلَّمُ يومَه وليلتَه، وهذا كان في الجاهليَّةِ، ومنَعَه الإسلامُ. (قال الخطَّابيُّ: ... كان مِن نُسُكِ أهلِ الجاهليَّةِ الصَّمتُ، فكان أحدُهم يعتَكِفُ اليومَ واللَّيلةَ ويَصمُتُ، فنُهوا عن ذلك، وأُمِروا بالنُّطقِ بالخيرِ) [6111] ((فتح الباري)) لابن حجر (7/150). ، ونهى النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بشيرَ بنَ الخَصاصيَّةِ عن صَومِ الصَّمتِ [6112] لفظُه: عن ليلى امرأةِ بشيرٍ أنَّه (سأل النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أصومُ يومَ الجُمُعةِ ولا أكَلِّمُ ذلك اليومَ أحدًا؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَصُمْ يومَ الجمُعةِ إلَّا في أيامٍ هو أحَدُها، أو في شَهرٍ، وأمَّا ألَّا تُكَلِّمَ أحدًا فلَعَمْري لَأَنْ تَكلَّمَ بمعروفٍ، وتنهى عن مُنكَرٍ: خيرٌ من أن تَسكُتَ). أخرجه أحمد (21954) واللفظ له، والطبراني (2/44) (1232)، والبيهقي (20589) كلاهما عن ليلى عن بشيرٍ أنَّه سأل رسولَ اللهِ... صحَّح إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2945)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (36/ 286)، وجوَّده الذهبي في ((المهذب)) (8/4052)، ووثَّق رجالَه الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/202). .
(قال ابنُ الهمامِ: يُكرَهُ صومُ الصَّمتِ، وهو أن يصومَ ولا يتكَلَّمَ، يعني: يلتزِمُ عَدَمَ الكلامِ، بل يتكَلَّمُ بخيرٍ ولحاجتِه) [6113] ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (4/375). .
الصَّمتُ البِدْعيُّ:
قال ابنُ تَيميَّةَ: (أمَّا الصَّمتُ الدَّائِمُ فبِدعةٌ منهيٌّ عنها، وكذلك الامتناعُ عن أكلِ الخُبزِ واللَّحمِ وشُربِ الماءِ، فذلك من البِدَعِ المذمومةِ أيضًا، كما ثبت في صحيحِ البُخاريِّ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى رجلًا قائمًا في الشَّمسِ، فقال: ما هذا؟ فقالوا: أبو إسرائيلَ نَذَر أن يقومَ في الشَّمسِ ولا يَستَظِلَّ، ولا يتكَلَّمَ، ويصومَ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مروه فلْيَجلِسْ ولْيَستَظِلَّ، ولْيتكَلَّمْ، ولْيُتِمَّ صَومَه)) [6114] ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 61). والحديث أخرجه البخاري (6704) بنحوه. .
وقال أيضًا: (ومن تعبَّد بالصَّمتِ أو بالقيامِ بالشَّمسِ، أو بالجُلوسِ أو بالعُريِ ونحوِ ذلك؛ فهو ضالٌّ يجِبُ أن يُنكَرَ عليه) [6115] ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص: 561). .
وصايا في الصَّمتِ:
- (قال رجلٌ لبعضِ العارفين: أوصِني، قال: اجعَلْ لدينِك غِلافًا كغِلافِ المُصحَفِ لئلَّا يُدَنِّسَه، قال: وما غِلافُ الدِّينِ؟ قال: تركُ الكلامِ إلَّا فيما لا بُدَّ منه، وتَركُ طَلَبِ الدُّنيا إلَّا ما لا بُدَّ منه، وتركُ مخالطةِ النَّاسِ إلَّا فيما لا بُدَّ منه) [6116] ((فيض القدير)) للمناوي (3/82). .
- وقال أبو سعيدٍ لرَجُلٍ سأله الوصيَّةَ: (أوصيك بتقوى الله، وعليك بالصَّمتِ؛ فإنَّك به تَغلِبُ الشَّيطانَ) [6117] أخرجه عبد اللهِ بن المبارك في ((الزهد - رواية المروزي)) (ص: 289) رقم (840). ومن طريقِه أخرجه ابنُ أبي عاصم في ((الزهد)) (43). .
المفاضَلةُ بَيْنَ الصَّمتِ والكلامِ:
قال النَّوويُّ: (ورُوِّينا عن الأستاذِ أبي القاسِمِ القُشَيريِّ رحمه اللهُ، قال: الصَّمتُ سلامةٌ، وهو الأصلُ، والسُّكوتُ في وقتِه صفةُ الرِّجالِ، كما أنَّ النُّطقَ في مَوضِعِه من أشرَفِ الخِصالِ، قال: وسمِعتُ أبا عليٍّ الدَّقَّاقَ يقولُ: من سكَت عن الحَقِّ فهو شيطانٌ أخرَسُ، قال: فأمَّا إيثارُ أصحابِ المجاهَدةِ السُّكوتَ؛ فلِمَا عَلِموا ما في الكلامِ من الآفاتِ، ثمَّ ما فيه مِن حَظِّ النَّفسِ، وإظهارِ صِفاتِ المدحِ، والميلِ إلى أن يتمَيَّزَ من بَيْنِ أشكالِه بحُسنِ النُّطقِ، وغيرِ هذا من الآفاتِ) [6118] ((شرح النووي على مسلم)) (2/19-20). ويُنظَر: ((الرسالة القشيرية)) (1/ 245). .
(فليس الكلامُ مأمورًا به على الإطلاقِ، ولا السُّكوتُ كذلك، بل لا بدَّ من الكلامِ بالخيرِ، والسُّكوتِ عن الشَّرِّ، وكان السَّلَفُ كثيرًا يمدَحون الصَّمتَ عن الشَّرِّ، وعمَّا لا يعني؛ لشِدَّتِه على النَّفسِ، وذلك يقعُ فيه النَّاسُ كثيرًا، فكانوا يعالِجون أنفُسَهم، ويجاهِدونها على السُّكوتِ عمَّا لا يَعنيهم) [6119] ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (ص: 341). .
 (ومَن مدَح الصَّمتَ فاعتبارًا بمن يسيءُ في الكلامِ، فيَقَعُ منه جناياتٌ عظيمةٌ في أمورِ الدِّينِ والدُّنيا. فإذا ما اعتُبِرَا بأنفُسِهما فمُحالٌ أن يُقالَ: في الصَّمتِ فَضلٌ، فَضلًا أن يخايَرَ بينَه وبينَ النُّطقِ. وسُئِل حكيمٌ عن فضلِهما فقال: الصَّمتُ أفضَلُ حتى يحتاجَ إلى النُّطقِ، وسُئِل آخَرُ عن فضلِهما فقال: الصَّمتُ عن الخَنا أفضَلُ من الكلامِ بالخَطَا) [6120] يُنظَر: ((الذريعة)) للراغب الأصفهاني (ص: 192)، ((محاسن التأويل)) للقاسمي (9/100). .
وقال شَمسُ الدِّينِ السَّفَّارينيُّ: (المعتَمَدُ أنَّ الكلامَ أفضَلُ؛ لأنَّه من بابِ التَّحليةِ، والسُّكوتُ من التَّخليةِ، والتَّحليةُ أفضَلُ، ولأنَّ المتكَلِّمَ حَصَل له ما حَصَل للسَّاكِتِ وزيادةٌ، وذلك أنَّ غايةَ ما يحصُلُ للسَّاكِتِ السَّلامةُ، وهي حاصلةٌ لِمن يتكَلَّمُ بالخيرِ مع ثوابِ الخَيرِ) [6121] ((غذاء الألباب)) (1/74). .
وفي الحديثِ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فلَعَمْري لأن تَكَلَّمَ بمعروفٍ وتنهى عن مُنكَرٍ خيرٌ من أن تَسكُتَ)) [6122] أخرجه أحمد (21954) واللفظُ له، عن ليلى امرأةِ بشيرٍ أنَّه سأل النَّبيَّ...، والطبراني (2/44) (1232)، والبيهقي (20589) كلاهما عن ليلى عن بشيرٍ أنَّه سأل رسولَ اللهِ... صحَّح إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2945)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (36/ 286)، وجوَّده الذهبي في ((المهذب)) (8/4052)، ووثَّق رجاله الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/202). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (فالتَّكلُّمُ بالخيرِ خيرٌ من السُّكوتِ عنه، والصَّمتُ عن الشَّرِّ خيرٌ من التَّكلُّمِ به) [6123] ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 61). .
قال طاوسٌ وابنُ أبي نَجيحٍ: (من تكلَّم فاتقى اللهَ خيرٌ ممَّن صمت واتَّقى اللهَ) [6124] ((السنن)) لسعيد بن منصور (4/ 45) رقم (5662). .
(وتذاكَروا عِندَ الأحنَفِ بنِ قَيسٍ، أيُّهما أفضَلُ: الصَّمتُ أو النُّطقُ؟ فقال قومٌ: الصَّمتُ أفضَلُ، فقال الأحنَفُ: النُّطقُ أفضَلُ؛ لأنَّ فضلَ الصَّمتِ لا يعدو صاحِبَه، والمنطِقُ الحَسَنُ ينتَفِعُ به من سَمِعه.
وقال رجلٌ من العُلَماءِ عِندَ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ رحمه اللهُ: الصَّامِتُ على علمٍ كالمتكَلِّمِ على علمٍ، فقال عُمَرُ: إني لأرجو أن يكونَ المتكَلِّمُ على علمٍ أفضَلَهما يومَ القيامةِ حالًا، وذلك أنَّ منفعتَه للنَّاسِ، وهذا صمتُه لنفسِه، فقال له: يا أميرَ المُؤمِنين، وكيف بفتنةِ النُّطقِ؟ فبكى عُمَرُ عِندَ ذلك بكاءً شديدًا!) [6125] ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (ص: 341). .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (الكلامُ بالخيرِ من ذِكرِ اللهِ وتلاوةِ القُرآنِ وأعمالِ البِرِّ أفضَلُ من الصَّمتِ، وكذلك القولُ بالحَقِّ كُلُّه، والإصلاحُ بَيْنَ النَّاسِ وما كان مِثلَه) [6126] ((التمهيد)) (22/20). .
وقال أيضًا: (ممَّا يُبَيِّنُ لك أنَّ الكلامَ بالخيرِ والذِّكرِ أفضَلُ من الصَّمتِ: أنَّ فضائِلَ الذِّكرِ الثَّابتةَ في الأحاديثِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يستَحِقُّها الصَّامِتُ) [6127] ((التمهيد)) (22/20). .
وقال أيضًا: (الكلامُ بالخيرِ والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المُنكَرِ وإدمانُ الذِّكرِ وتلاوةُ القُرآنِ: أفضَلُ من الصَّمتِ؛ لأنَّ الكلامَ بذلك غنيمةٌ، والصَّمتُ سلامةٌ، والغنيمةُ فوقَ السَّلامةِ) [6128] ((الاستذكار)) (8/ 366). .
وقال النَّيسابوريُّ: (والإنصافُ أنَّ الصَّمتَ في نفسِه ليس بفضيلةٍ؛ لأنَّه أمرٌ عَدَميٌّ، والنُّطقُ في نَفسِه فضيلةٌ، وإنَّما يصيرُ رذيلةً لأسبابٍ عَرَضيَّةٍ) [6129] ((غرائب القرآن)) للنيسابوري (4/537). .
وعن خاقانَ بنِ عبدِ اللهِ قال: سمعتُ ابنَ المبارَكِ، وسُئِل عن قولِ لُقمانَ لابنِه: (إن كان الكلامُ من فِضَّةٍ فإنَّ الصَّمتَ من ذَهَبٍ)، فقال عبدُ اللهِ: (لو كان الكلامُ بطاعةِ اللهِ من فِضَّةٍ، فإنَّ الصَّمتَ عن معصيةِ اللهِ مِن ذَهَبٍ) [6130] أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (736). .
آفتانِ في اللِّسانِ عَظيمتانِ:
في اللِّسانِ آفتانِ عظيمتانِ إن خلَص العبدُ من إحداهما لم يخلُصْ من الأخرى: آفةُ الكلامِ، وآفةُ
السُّكوتِ، وقد يكونُ كُلٌّ منهما أعظَمَ إثمًا من الأُخرى في وقتِها؛ فالسَّاكِتُ عن الحَقِّ شيطانٌ أخرَسُ،
عاصٍ للهِ، مُراءٍ مُداهِنٌ، إذا لم يَخَفْ على نفسِه. والمتكَلِّمُ بالباطِلِ شَيطانٌ ناطِقٌ، عاصٍ للهِ، وأكثَرُ الخلقِ
منحَرِفٌ في كلامِه وسكوتِه؛ فهم بَيْنَ هذينِ النَّوعينِ، وأهلُ الوَسَطِ -وهم أهلُ الصِّراطِ المستقيمِ- كَفُّوا
ألسنتَهم عن الباطِلِ، وأطلَقوها فيما يعودُ عليهم نفعُه في الآخِرةِ [6131] يُنظَر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 161). .
نذرُ مَريَمَ:
قال تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم: 26] ، قيل: المرادُ بالصَّومِ هنا: الصَّمتُ [6132] وممَّن اختار هذا القولَ: ابنُ جرير، والرسعني، والقرطبي، والخازن، والبقاعي، والسعدي. يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (15/516)، ((تفسير الرسعني)) (4/411)، ((تفسير القرطبي)) (11/97)، ((تفسير الخازن)) (3/186)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/191)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492). ونسب الشنقيطي في ((أضواء البيان)) (3/410) هذا القولَ للجُمهورِ. وممَّن قال بهذا القولِ من السَّلَفِ: أنسُ بنُ مالكٍ في رواية عنه، وابنُ عبَّاسٍ، والضَّحَّاكُ. يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (15/516)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/128)، ((تفسير ابن كثير)) (5/225). ، وقيل: المرادُ: الصَّومُ عن الطَّعامِ والكلامِ معًا [6133] وممَّن ذهب إلى ذلك القولِ من السَّلَفِ: أنسُ بنُ مالكٍ في رواية عنه، وقتادةُ، وابنُ زيدٍ، والسُّدِّيُّ. يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (15/517)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/128)، ((تفسير ابن كثير)) (5/225). ، فأَمَرها اللهُ تعالى بأن تَنذِرَ الصَّومَ؛ لئلَّا تَشرَعَ مع من اتَّهمَها في الكلامِ؛ لِمَعنَيينِ:
أحَدُهما: أنَّ كلامَ عيسى عليه السَّلامُ أقوى في إزالةِ التُّهمةِ من كلامِها، وفيه دَلالةٌ على أنَّ تفويضَ الأمرِ إلى الأفضَلِ أَولى.
والثَّاني: كراهةُ مجادَلةِ السُّفَهاءِ، وفيه أنَّ السُّكوتَ عن السَّفيهِ واجبٌ، ومن أذَلِّ النَّاسِ سَفيهٌ لم يَجِدْ مسافِهًا [6134] يُنظَر: ((تفسير الرازي)) (21/529). .
قال ابنُ عاشورٍ: (وكان الانقِطاعُ عن الكلامِ من ضُروبِ العبادةِ في بعضِ الشَّرائعِ السَّالفةِ، وقد اقتَبَسه العرَبُ في الجاهليَّةِ... ونُسِخ في شريعةِ الإسلامِ... بقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مُروه فلْيَتكَلَّمْ)) [6135] أخرجه البخاري (6704) بنحوه. ، وعَمَلِ أصحابِه) [6136] ((التحرير والتنوير)) (16/ 90). .

انظر أيضا: