موسوعة التفسير

سورةُ الرُّومِ
الآيات (30-32)

ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ

غَريبُ الكَلِماتِ:

حَنِيفًا: أي: مُقبِلًا على عبادةِ اللهِ، مائِلًا عن الشِّركِ، والحنفُ: ميلٌ في إبهامَيِ القدَمَينِ، كل واحدةٍ على صاحبتِها، وأصلُ (حنف): يدُلُّ على مَيلٍ [355] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 184)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2 /110)، ((المفردات)) للراغب (ص: 260)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 291)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 111). وقيل: إنَّ الحنيفَ هو المستقيمُ مِن كلِّ شيءٍ، والحنفَ: الاستقامةُ، وجعَلوا الرَّجُلَ الَّذي تُقْبِلُ إحدَى قَدَميه على الأُخرى، إنَّما قِيل له: أحنَفُ، على جهة التَّفاؤلِ، كما قِيل للمَهْلَكةِ مِن البلادِ: المَفازَةُ، بمعنَى الفوزِ بالنَّجاةِ منها والسَّلامةِ، وكما قِيل لِلَّديغِ: السَّليمُ؛ تَفاؤلًا له بالسَّلامةِ مِن الهلاكِ، وما أشبَهَ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/591)، ((تفسير ابن عطية)) (3/146). .
فِطْرَةَ: أي: خِلْقةَ، وأصلُ (فطر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وإبرازِه [356] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 341)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/510)، ((المفردات)) للراغب (ص: 640). .
الْقَيِّمُ: أي: المُستقيمُ، وأصلُ (قوم): يدُلُّ على انتِصابٍ أو عَزمٍ [357] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/45)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/43)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 292). .
مُنِيبِينَ: أي: تائِبينَ راجِعِينَ إلى اللهِ مُقْبِلِينَ، وأصلُ (نوب): يدُلُّ على اعتيادِ مكانٍ ورجوعٍ إليه [358] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/497)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/185)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 446)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/367)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (5/132). .
شِيَعًا: أي: فِرَقًا وأحزابًا مُختَلِفينَ، وأصلُ (شيع): يدُلُّ على مُعاضَدةٍ [359] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 154)، ((تفسير ابن جرير)) (9/298)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 292)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/235)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 279)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 191). .
حِزْبٍ: أي: شيعةٍ وفِرقةٍ، يُقالُ: تحزَّب القومُ: اجتَمَعوا، وأصلُ (حزب): تَجَمُّعُ الشَّيءِ [360] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/122)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/55)، ((تحفة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 95)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 152). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
فِطْرَةَ اللَّهِ مَنصوبٌ على الإغراءِ، أي: الزَموا فِطرةَ اللهِ تعالى.
مُنِيبِينَ حالٌ مِن الضَّميرِ في (الزَموا) المحذوفِ، وقَولُه: وَاتَّقُوهُ، وَأَقِيمُوا، وَلَا تَكُونُوا مَعطوفٌ على هذا الفِعلِ المحذوفِ. وقيل: فِطْرَةَ اللَّهِ مَصدرٌ مُؤكِّدُ لِمَضمونِ الجُملةِ؛ لأنَّ الكَلامَ دلَّ على: فَطَر اللهُ الخَلْقَ فِطرةً، ومُنِيبِينَ حالٌ مِن الضَّميرِ في (أَقِمْ)، وإنَّما جُمِعَ مُنِيبِينَ؛ لأنَّه مَردودٌ على المعنى؛ فالخِطابُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو خِطابٌ لأمَّتِه، فكأنَّه قيل: أقيموا وُجوهَكم مُنيبِينَ إليه [361] يُنظر: ((معانى القرآن)) للأخفش (2/475)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/185)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/561)، ((تفسير الزمخشري)) (1/1949)، ((التبيان)) للعكبري (2/1040)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/44)، ((تفسير الألوسي)) (11/40). .

المَعنى الإجماليُّ:

يأمُرُ الله تعالى نبيَّه -والمؤمنون داخِلونَ في الخِطابِ- أن يَثبُتَ على الحقِّ الَّذي هداه إليه، فيقولُ: فسَدِّدْ وَجْهَك وقَصْدَك كُلَّه -يا مُحمَّدُ- نحوَ جِهةِ الإسلامِ الَّذي شرَعَه اللهُ لك، مُقبِلًا على عبادةِ اللهِ وَحْدَه، مائِلًا عن الشِّركِ، فَطَر اللهُ النَّاسَ على ذلك فِطرةً، لا تغييرَ لدينِ اللهِ، ولا يُخلَقُ الخَلقُ على غيرِ الفِطرةِ.
وإقامةُ الوَجهِ للإسلامِ الَّذي شرَعَه اللهُ هو الدِّينُ الكامِلُ الَّذي لا عِوَجَ فيه ولا نَقصَ، ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ؛ فأقِمْ وَجْهَك -يا مُحمَّدُ- ومَن معك راجِعينَ إلى اللهِ وحْدَه، واتَّقوه بامتِثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيه، وأدُّوا الصَّلَواتِ على وَجهِها التَّامِّ، ولا تكونوا مِنَ المُشرِكينَ؛ مِنَ الَّذين بدَّلوا دينَ اللهِ ففارَقوه وكانوا أحزابًا وفِرَقًا، كُلُّ فِرقةٍ منهم فَرِحونَ مَسرورونَ، يَحسَبونَ أنَّ الصَّوابَ معهم دونَ غَيرِهم!

تَفسيرُ الآياتِ:

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) .
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا.
أي: فانصِبْ -يا محمَّدُ- قَلْبَك وقَصْدَك كُلَّه إلى جِهةِ الإسلامِ الَّذي شَرَعه اللهُ لك، واستَمِرَّ عليه، واجتَهِدْ في طَلَبِه واتِّباعِه، مُقبِلًا على عبادةِ اللهِ وَحْدَه، مائِلًا عن الشِّركِ وعن جميعِ الأديانِ الباطِلةِ، والفِرَقِ المُبتَدِعةِ [362] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/492)، ((تفسير ابن عطية)) (4/336)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (5/180)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 269)، ((تفسير ابن كثير)) (6/313)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/83)، ((تفسير السعدي)) (ص: 641)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/89)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 173-175). قال الشوكاني: (هذا الخِطابُ وإن كان خاصًّا برَسولِ اللهِ، فأُمَّتُه داخِلةٌ معه فيه. قال القرطبي: باتِّفاقٍ مِن أهلِ التَّأويلِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/258). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (4/185)، ((تفسير القرطبي)) (14/24)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 174، 175). .
كما قال تعالى حاكيًا دُعاءَ نَبيِّه إبراهيمَ عليه السَّلامُ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] .
فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.
أي: دينَ اللهِ [363] قيل: المعنى: اتَّبِعْ فِطرةَ الله؛ لأنَّ معنى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ: اتَّبِعِ الدِّينَ، واتَّبِعْ فِطرةَ الله. وقيل: هي مصدرٌ مِن معنى فَأَقِمْ وَجْهَكَ؛ لأنَّ معنى ذلك: فطَر اللهُ النَّاسَ على الدِّينِ. وقيل: المعنى: الزَموا فِطرةَ الله، أو عليكم فِطرةَ الله. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/258). : الإسلامَ الَّذي خلَق جميعَ الناسِ مُهَيَّئِينَ لِمَعرفتِه وقَبولِه، والتَّصديقِ والإقرارِ بعَقائدِه، والانقيادِ إليه، والعَمَلِ بأحكامِه، وقد جعَل الله تعاليمَه مُناسِبةً لخِلقتِهم، غيرَ مُخالِفةٍ لها [364] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/492)، ((تفسير ابن عطية)) (4/336)، ((تفسير القرطبي)) (14/29)، ((تفسير ابن كثير)) (6/313)، ((فتح الباري)) لابن رجب (4/192)، ((تفسير السعدي)) (ص: 641)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/89 - 92). قال ابنُ عبد البَرِّ: (أجمَعوا في قَولِ الله عزَّ وجلَّ: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا على أنْ قالوا: فِطرةُ الله: دِينُ اللهِ؛ الإسلامُ). ((التمهيد)) (18/72). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِن مَولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطْرةِ، فأبَواه يُهَوِّدانِه ويُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه، كما تُنتَجُ البَهيمةُ بَهيمةً جَمعاءَ [365] الجَمعاءُ مِن البهائِمِ: الَّتي لم يذهَبْ مِن بدَنِها شَيءٌ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبيدي (20/459). ، هل تُحِسُّونَ فيها مِن جَدْعاءَ [366] جَدْعاءَ: أي: مقطوعةَ الأطرافِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/247). ؟! ثمَّ يقولُ أبو هُريرةَ رَضيَ الله عنه: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)) [367] رواه البخاري (1359) واللفظ له، ومسلم (2658). .
وعن عِياضِ بنِ حِمارٍ المُجاشِعيِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلَّم قال ذاتَ يومٍ في خُطبتِه: ((ألَا إنَّ رَبِّي أمَرَني أنْ أُعَلِّمَكم ما جَهِلْتُم ممَّا عَلَّمَني يَومي هذا: كُلُّ مالٍ نَحَلْتُه [368] نحَلْتُه: أعطَيْتُه، والنِّحْلةُ: العَطيَّةُ. يُنظر: ((المفهم لما أَشْكَل من تلخيص كتاب مسلم)) للمازَري (6/711). عَبدًا حَلالٌ، وإنِّي خَلَقْتُ عِبادي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنَّهم أتَتْهم الشَّياطينُ فاجتالَتْهم [369] فاجْتَالتْهم: أي: استخَفَّتْهم فجالوا معهم في الضَّلال؛ يُقال: جالَ واجتالَ: إذا ذهَب وجاءَ، ومنه الجَوَلانُ في الحَربِ، واجتالَ الشَّيءَ: إذا ذَهَب به وساقَه، والجائلُ: الزَّائلُ عن مَكانِه. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/317). عن دينِهم، وحرَّمتْ عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنَزِّلْ به سُلْطانًا )) [370] رواه مسلم (2865). .
لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.
أي: لا يُخلَقُ الخَلْقُ على غيرِ الفِطرةِ؛ فالله تعالى سَوَّى بينَ جَميعِ خَلْقِه في الفِطرةِ على الجِبِلَّةِ المُستَقيمةِ والتهَيُّؤِ لِقَبولِ دينِه، لا يُولَدُ أحدٌ إلَّا على ذلك [371] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/31)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (8/424، 425)، ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (2/1029)، ((تفسير السعدي)) (ص: 641). ومِمَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: القرطبيُّ، وابنُ تيميَّة، وابن القيم، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المرادُ: لا تُبَدِّلوا دينَ اللهِ الَّذي فَطَر عليه عبادَه، فتَكونُ الجملةُ خَبرًا بمعنى النَّهيِ. وممَّن ذهب إليه: ابنُ جرير، والخازن، وجلال الدين المحلي، والعليمي، واستحسنه ابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/494)، ((تفسير الخازن)) (3/391)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 535)، ((تفسير العليمي)) (5/284)، ((تفسير ابن كثير)) (6/314). ويُنظر أيضًا: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (8/424)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/93). قال الثعلبي: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لِدِينِ الله، أي: لا يَصلُحُ ذلك، ولا ينبغي أن يُفعلَ، ظاهرُه نفْيٌ، ومعناه نهْيٌ، هذا قولُ أكثَرِ العلماءِ والمفسِّرينَ). ((تفسير الثعلبي)) (7/301). وقيل: المرادُ: أنَّ الإسلامَ هو الدِّينُ الحَنيفُ الَّذي ليس فيه تبديلٌ لخِلقِ الله، بخلافِ دينِ أهلِ الشِّركِ، كما قال تعالى عن الشَّيطانِ: وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء: 119] . ومِمَّن قال بهذا المعنى: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/93). وقيل: المرادُ: لا أحَدَ يَستطيعُ أن يغَيِّرَ ما خَلَق اللهُ، ولا يجوزُ لأحدٍ أن يُغَيِّرَ هذه الفِطرةَ الَّتي خُلِقَ النَّاسُ عليها؛ مِن الإخلاصِ إلى الشِّركِ. ومِمَّن قال بهذا: ابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 184). قال البقاعي: (لا يَقدِرُ أحدٌ أن يجعلَ طِفلًا في أوَّلِ أمرِه خَبيثَ الفِطرةِ لا يَنقادُ لِما يُقادُ إليه، ولا يَستسلِمُ لِمن يُربِّيه، وكُلَّما كَبِرَ وطَعَن في السِّنِّ رجَع لِما طُبِعَ عليه مِن كُفرٍ أو إيمانٍ، أو طاعةٍ أو عصيانٍ، أو نُكرٍ أو عِرفانٍ، قليلًا قليلًا، حتَّى يَنساقَ إلى ذلك عندَ البُلوغِ أو بعدَه). ((نظم الدرر)) (15/88). .
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.
أي: إقامةُ الوَجهِ للإسلامِ الَّذي شَرَعَه اللهُ بلا تَغييرٍ، وطاعةُ اللهِ بلا شِركٍ: هو الدِّينُ الكامِلُ الَّذي لا عِوَجَ فيه ولا نَقْصَ؛ فهو الطَّريقُ المُستَقيمُ السَّالِمُ مِن الانحِرافاتِ والضَّلالاتِ، الموصِلُ إلى اللهِ ورِضوانِه وجَنَّتِه [372] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/496)، ((الوسيط)) للواحدي (3/433)، ((تفسير القرطبي)) (14/31)، ((تفسير ابن كثير)) (6/314)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/88، 89)، ((تفسير السعدي)) (ص: 641)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/93، 94)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 181). .
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
أي: ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ الدِّينَ الحَقَّ، فهم يُشرِكونَ باللهِ، ويتَّبِعونَ غيرَ ما شَرَعه اللهُ [373] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/497)، ((تفسير القرطبي)) (14/31)، ((تفسير ابن كثير)) (6/316). .
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31).
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ.
أي: راجِعينَ إلى اللهِ وَحْدَه؛ مِنَ الشِّركِ إلى التَّوحيدِ، ومِنَ المَعصيةِ إلى الطَّاعةِ، ومِنَ البِدَعِ والضَّلالاتِ إلى التَّمَسُّكِ بالشَّرعِ [374] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/497)، ((تفسير السمرقندي)) (3/12)، ((الوسيط)) للواحدي (3/434)، ((تفسير السمعاني)) (4/211)، ((تفسير القرطبي)) (14/31)، ((تفسير ابن كثير)) (6/316). .
وَاتَّقُوهُ.
أي: واجعَلوا بيْنَكم وبينَ سَخَطِ اللهِ وعَذابِه حاجِزًا؛ بامتِثالِ أوامِرِه، واجتِنابِ نواهيه [375] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/498)، ((تفسير القرطبي)) (14/32)، ((تفسير السعدي)) (ص: 641)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 187). .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ.
أي: وأدُّوا الصَّلَواتِ على وَجْهِها التَّامِّ؛ بالمحافَظةِ على أركانِها وواجِباتِها، وغَيرِ ذلك [376] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (4/185)، ((تفسير ابن كثير)) (6/316)، ((فتح الباري)) لابن رجب (4/192، 193)، ((تفسير السعدي)) (ص: 641). قال ابنُ عثيمين: (إقامتُها على نوعَينِ: إقامةٌ واجِبةٌ لا بُدَّ لصِحَّةِ الصَّلاةِ منها، وذلك الإتيانُ بالشُّروطِ والأركانِ والواجِباتِ. وإقامةٌ مُكَمِّلةٌ، وهي إضافةُ المُستحَبَّاتِ إلى ما ذُكِرَ... ومِن إقامتِها المُكَمِّلةِ أن يأتيَ الإنسانُ بالنَّوافِلِ؛ لأنَّ النَّوافِلَ صلاةُ تَطوُّعٍ تُكَمَّلُ بها الفرائِضُ يومَ القيامةِ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 187، 188). .
وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
أي: ولا تَكونوا ممَّن يَدخُلُ في عِدادِ المُشرِكينَ بأن تَعمَلوا بمِثلِ ما يَعمَلونَ [377] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/498)، ((تفسير القرطبي)) (14/32)، ((تفسير ابن كثير)) (6/316)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/90). قال البقاعي: (هو عامٌّ في كُلِّ شِركٍ؛ سواءٌ كان بعبادةِ صَنَمٍ أو نارٍ أو غيرِهما، أو بالتَّدَيُّنِ بما يخالِفُ النُّصوصَ مِن أقوالِ الأحبارِ والرُّهبانِ وغيرِ ذلك). ((نظم الدرر)) (15/90). .
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32).
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ.
أي: لا تَكونوا مِنَ المُشرِكينَ الَّذين بدَّلوا دينَ اللهِ الَّذي فطَرَ العِبادَ عليه، وشَرَعَه لهم، فلم يَلتَزِموا به مِثْلَما أمَرَهم رَبُّهم [378] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/498)، ((تفسير القرطبي)) (14/32)، ((تفسير ابن كثير)) (6/316). قيل: المرادُ بقَولِه تعالى: فَرَّقُوا دِينَهُمْ: أنَّهم فارَقوا الدِّينَ الصَّحيحَ، والفِطرةَ السَّليمةَ، وكانوا أحزابًا وفِرَقًا، كُلٌّ منهم يَعبُدُ شَيئًا، ويَدينُ بدِينٍ مُختَلِفٍ؛ كاليهودِ والنَّصارى. ومِمَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، والبِقاعي، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/498)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 641)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 189، 190). وقال ابنُ كثير: (أي: لا تَكونوا من المشرِكينَ الَّذين قد فَرَّقوا دينَهم، أي: بدَّلوه وغَيَّروه، وآمَنوا ببعضٍ وكَفَروا ببعضٍ. وقرأ بعضُهم: فَارَقُوا دِينَهُمْ أي: ترَكوه وراءَ ظُهورِهم، وهؤلاء كاليهودِ والنَّصارى، والمجوسِ وعَبَدةِ الأوثانِ، وسائِرِ أهلِ الأديانِ الباطلةِ، ممَّا عدا أهلَ الإسلامِ، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159] ؛ فأهلُ الأديانِ قَبْلَنا اختلَفوا فيما بيْنَهم على آراءٍ ومِلَلٍ باطلةٍ، وكُلُّ فرقةٍ منهم تزعُمُ أنَّهم على شَيءٍ، وهذه الأمَّةُ أيضًا اختلَفوا فيما بيْنَهم على نِحَلٍ كُلُّها ضلالةٌ إلَّا واحدةً، وهم أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، المتمَسِّكونَ بكتابِ الله وسُنَّةِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وبما كان عليه الصَّدرُ الأوَّلُ مِن الصَّحابةِ والتَّابعينَ، وأئمَّةِ المسلِمينَ في قديمِ الدَّهرِ وحَديثِه). ((تفسير ابن كثير)) (6/316). وقال الأزهري بعدَ أنْ ذكَر أنَّ قراءةَ فَارَقُوا قرأ بها حمزةُ والكسائيُّ، وقراءةَ فَرَّقُوا بغيرِ ألفٍ قرأ بها الباقونَ، قال: (مَنْ قَرَأَ فَارَقُوا دِينَهُمْ ففيه قولانِ: أحدهما: أنَّهم تركوا دينَهم وفارقوه، فلم يَدُوموا عليه. والقولُ الثاني: أن فَارَقُوا وفَرَّقُوا بمعنى واحدٍ، كما يُقالُ: ضَعَّفَ وضاعف، وعالى وعَلَّى، وصَاعَر وصعَّر، ومعناهما: اختلافُهم في دينِهم وتفرُّقُهم فيه، ويُقوِّي هذا القولَ قولُه: وَكَانُوا شِيَعًا، أي: فِرَقًا شَتَّى). ((معاني القراءات)) (1/396). ويُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/266). .
كما قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء: 115] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((تفرَّقَت اليَهودُ على إحدى وسَبعينَ أو اثنتَينِ وسَبعينَ فِرقةً، والنَّصارى مِثلَ ذلك، وتفتَرِقُ أُمَّتي على ثلاثٍ وسَبعينَ فِرقةً )) [379] أخرجه أبو داود (4596)، والترمذي (2640) واللفظ له، وابن ماجه (3991)، وأحمد (8396). قال الترمذي: حسَنٌ صحيحٌ. وكذا قال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2640). وقال الشوكاني في ((الفتح الرباني)) (1/206): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ. وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (16/169). .
وَكَانُوا شِيَعًا.
أي: وكانوا فِرَقًا وأحزابًا، كُلُّ فِرقةٍ مِنهم تألَّفَت وتحالَفَت وتعَصَّبَت على نَصرِ ما معها مِن الباطِلِ، ومُنابَذةِ ومُحاربةِ مَن خالَفَها [380] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/498)، ((تفسير القرطبي)) (14/32)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/90، 91)، ((تفسير السعدي)) (ص: 641)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 190). .
كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.
أي: أتْباعُ كُلِّ طائفةٍ وفِرقةٍ منهم مُبتَهِجونَ ومُعجَبونَ بما تحالَفوا وتآلَفوا عليه مِنَ الضَّلالاتِ، يَحسَبونَ أنَّهم على الحَقِّ دونَ غَيرِهم [381] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/498)، ((تفسير ابن عطية)) (4/337)، ((تفسير القرطبي)) (14/32)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/96). !
كما قال تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون: 52 - 54] .
وقال عزَّ وجَلَّ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8] .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- يأمُرُ اللهُ تعالى بالإخلاصِ له في جميعِ الأحوالِ، وإقامةِ دينِه، في قَولِه تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ، أي: انصِبْه ووَجِّهْه إلى الدِّينِ الَّذي هو الإسلامُ والإيمانُ والإحسانُ؛ بأن تَتوجَّهَ بقَلبِك وقَصْدِك وبَدَنِك إلى إقامةِ شرائِعِ الدِّينِ الظَّاهِرةِ، كالصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والصَّومِ والحَجِّ، ونحوِها؛ وشرائِعِه الباطِنةِ، كالمحَبَّةِ والخَوفِ، والرَّجاءِ، والإنابةِ؛ والإحسانِ في الشَّرائِعِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، بأن تَعبُدَ اللهَ فيها كأنَّك تَراه، فإنْ لم تكُنْ تَراه فإنَّه يَراك [382] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 640). .
2- قَولُ الله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ هذا تَفسيرٌ لإقامةِ الوَجهِ للدِّينِ؛ فإنَّ الإنابةَ إنابةُ القَلبِ، وانجِذابُ دَواعيه لِمَراضي اللهِ تعالى، ويَلزَمُ مِن ذلك حمْلُ البَدَنِ بمُقتَضى ما في القَلبِ، فشَمِلَ ذلك العباداتِ الظَّاهِرةَ والباطِنةَ، ولا يَتِمُّ ذلك إلَّا بتَركِ المعاصي الظَّاهِرةِ والباطِنةِ؛ فلذلك قال: وَاتَّقُوهُ، فهذا يَشملُ فِعلَ المأموراتِ، وتَرْكَ المَنهيَّاتِ. وخَصَّ مِن المأموراتِ الصَّلاةَ؛ لِكَونِها تدعو إلى الإنابةِ والتَّقْوى؛ لِقَولِه تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فهذا إعانتُها على التَّقْوى، ثمَّ قال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فهذا حَثُّها على الإنابةِ، وخَصَّ مِن المَنهيَّاتِ أصْلَها، والَّذي لا يُقبَلُ معه عَمَلٌ، وهو الشِّركُ، فقال: وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ لِكَونِ الشِّركِ مُضادًّا للإنابةِ الَّتي رُوحُها الإخلاصُ مِن كُلِّ وَجهٍ [383] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 640). .
3- قَولُ الله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ أي: خافوا أن تَزيغوا عن سَبيلِه تعالى، فإذا خِفتُموه فلَزِمتُموها كُنتُم ممَّن تخلَّى عن الرَّذائِلِ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ تَصيروا ممَّن تحلَّى بالفَضائِلِ، وهكذا دأبُ الدِّينِ أبدًا: تخليةٌ ثمَّ تحليةٌ؛ أوَّلُ الدُّخولِ إلى الإسلامِ التَّنزيهُ، وأوَّلُ الدُّخولِ في القُرآنِ الاستعاذةُ، وهو أمرٌ ظاهِرٌ مَعقولٌ، مِثالُه: مَن أراد أن يكتُبَ في شَيءٍ إن مَسَح ما فيه مِنَ الكتابةِ انتَفَع بما كَتَب، وإلَّا أفسَدَ الأوَّلَ ولم يُقرَأِ الثَّاني. واللهُ الموَفِّقُ [384] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/90). .
4- قَولُ الله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ في هذا تحذيرٌ للمُسلِمينَ مِن تَشَتُّتِهم وتفَرُّقِهم فِرَقًا، كُلُّ فَريقٍ يتعَصَّبُ لِما معه مِن حَقٍّ وباطِلٍ، فيَكونونَ مُشابِهينَ بذلك للمُشرِكينَ في التَّفَرُّقِ، بل الدِّينُ واحِدٌ، والرَّسولُ واحِدٌ، والإلهُ واحِدٌ.
وأكثرُ الأمورِ الدِّينيَّةِ وَقَع فيها الإجماعُ بينَ العلماءِ والأئمَّةِ، والأُخُوَّةُ الإيمانيَّةُ قد عَقَدها اللهُ ورَبَطها أتمَّ رَبطٍ، فما بالُ ذلك كُلِّه يُلْغَى ويُبْنَى التَّفرُّقُ والشِّقاقُ بيْن المُسلِمينَ على مَسائِلَ خَفيَّةٍ أو فُروعٍ خِلافيَّةٍ يُضَلِّلُ بها بَعضُهم بعضًا، ويتميَّزُ بها بعضُهم عن بعضٍ؟! فهل هذا إلَّا مِن أكبَرِ نَزَغاتِ الشَّيطانِ وأعظَمِ مَقاصِدِه الَّتي كاد بها للمُسلِمينَ؟ وهل السَّعيُ في جَمعِ كَلِمتِهم، وإزالةِ ما بيْنَهم مِنَ الشِّقاقِ المَبنيِّ على ذلك الأصلِ الباطِلِ إلَّا مِن أفضَلِ الجهادِ في سَبيلِ اللهِ، وأفضَلِ الأعمالِ المقَرِّبةِ إلى اللهِ [385] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 640). ؟!

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا بَيَّن سُبحانَه أنَّ إقامةَ الوَجهِ -وهو إخلاصُ القَصْدِ، وبَذْلُ الوُسْعِ لدِينِه، المُتضَمِّنُ محبَّتَه وعبادتَه، حنيفًا مُقْبِلًا عليه، مُعرِضًا عمَّا سِواه- هو فِطرتُه الَّتي فَطَرَ عليها عبادَه، فلو خُلُّوا ودواعيَ فِطَرِهم لَمَا رَغِبوا عن ذلك، ولا اختاروا سِواه، ولكنْ غُيِّرَتِ الفِطَرُ وأُفسِدَتْ، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِن مَولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطرةِ، فأبَواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه، كما تُنْتَجُ البَهيمةُ بهيمةً جَمعَاءَ، هل تُحِسُّونَ فيها مِن جَدْعَاءَ؟! ثمَّ يقولُ أبو هريرةَ: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ)) [386] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/87). والحديث رواه البخاري (1359) واللفظ له، ومسلم (2658). .
2- سَبَبُ الاجتِماعِ والأُلْفةِ جمْعُ الدِّينِ، والعَمَلُ به كُلِّه، وهو عِبادةُ اللهِ وَحْدَه لا شَريكَ له كما أمَرَ به، باطِنًا وظاهِرًا، وسَبَبُ الفُرقةِ: تَرْكُ حَظٍّ ممَّا أُمِرَ العبدُ به، والبَغيُ بيْنَهم؛ قال اللهُ تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [387] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/17). .
3- في قَولِه تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا أنَّ هذا الدِّينَ المَبنيَّ على الإخلاصِ اجتَمَعَ فيه الشَّرعُ والفِطرةُ؛ أمَّا الشَّرعُ فلأنَّه أُمِرَ به، وأمَّا الفِطرةُ فلأنَّ النَّاسَ خُلِقوا عليها وجُبِلوا عليها، ولولا ما يَحصُلُ مِن الموانِعِ والعَوارِضِ لِبَني آدمَ لَكانَ النَّاسُ كلُّهم مُؤمِنينَ على الفِطرةِ، كما جاء في الحَديثِ: ((فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه )) [388] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 184). والحديث رواه البخاري (1359) واللفظ له، ومسلم (2658). .
4- في قَولِه تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا إلى قَولِه سُبحانَه: وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أنَّ التَّفَرُّقَ والاختِلافَ يُوجِبُ الشِّركَ، ويُنافي حقيقةَ التَّوحيدِ الَّذي هو إخلاصُ الدِّينِ كلِّه لله [389] يُنظر: ((قاعدة في المحبة)) لابن تيمية (ص: 43). ، فالتَّوحيدُ أبدًا قرينُ الاجتماعِ؛ لأنَّ الاجتماعَ فيه الوحدةُ. والتَّفرُّقُ لا بُدَّ فيه مِن التَّثنيةِ والتَّعدُّدِ، كما أنَّ الإشراكَ مَقرونٌ بالتَّفَرُّقِ [390] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (4/224). .
5- القَلبُ إنْ لم يكُنْ حَنيفًا مُقبِلًا على الله مُعرِضًا عمَّا سِواه، وإلَّا كان مُشرِكًا؛ قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، إلى قَولِه سُبحانَه:   كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [391] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/216). .
6- قَولُه تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ استُدِلَّ به على أنَّ كُلَّ مَولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ، أخرج الشَّيخانِ عن أبي هُريرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِن مَولودٍ يُولَدُ إلَّا على الفِطرةِ ))، ثمَّ يقولُ أي: أبو هُريرةَ: اقرَؤوا: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [392] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 207). والحديث رواه البخاري (1359) واللفظ له، ومسلم (2658). .
7- إنَّ أقْوَمَ الأديانِ ما بُنيَ على الإخلاصِ؛ لِقَولِه تعالى: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فالمُشارُ إليه هو ما سَبَق مِن الفِطرةِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عليها، وهي الَّتي أمَرَ اللهُ بها في قَولِه تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [393] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 184). .
8- في قَولِه تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ دَلالةٌ على أنَّ أكثَرَ النَّاسِ في هذا البابِ على جَهلٍ وضَلالٍ؛ فهُم بيْنَ أمْرينِ: إمَّا عالِمٌ مُستكبِرٌ، فعِلْمُه لم ينفَعْه، وإمَّا جاهِلٌ [394] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 184). .
9- في قَولِه تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ دَليلٌ على شَرَفِ الصَّلاةِ وفَضلِها، وأنَّها أهمُّ أعمالِ الجوارحِ؛ فإنَّه سُبحانَه خَصَّ بالذِّكرِ إقامةَ الصَّلاةِ، فلم يَذكُرْ مِن أعمالِ الجوارحِ باسمِه الخاصِّ سِواها [395] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (3/27). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
- قولُه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا تَمْثيلٌ لإقبالِه على الدِّينِ، واستِقامَتِه وثَباتِه عليه، واهتِمامِه بتَرتيبِ أسبابِه؛ فإنَّ مَنِ اهتمَّ بشَيءٍ مَحسوسٍ بالبصَرِ عقَدَ عليه طَرْفَه، وسدَّدَ إليه نظَرَهُ، وقوَّمَ له وجْهَه، مُقبِلًا به عليه [396] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/479)، ((تفسير البيضاوي)) (4/206)، ((تفسير أبي حيان)) (8/389)، ((تفسير أبي السعود)) (7/60)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/89). .
- والفاءُ في قولِه: فَأَقِمْ فَصيحةٌ، والتَّقديرُ: إذا علِمْتَ أحوالَ المُعرِضينَ عن دَلائلِ الحقِّ، فأقِمْ وجْهَك للدِّينِ حَنيفًا [397] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/88). .
- والأمْرُ في قولِه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا مُستعمَلٌ في طلَبِ الدَّوامِ، والمقصودُ: ألَّا تَهْتَمَّ بإعراضِهم [398] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/88). .
- وذكَرَ الوجْهَ هنا؛ لأنَّه جامعُ حواسِّ الإنسانِ، وأشرَفُه [399] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/389). . وقيل: خصَّ اللهُ إقامةَ الوجْهِ؛ لأنَّ إقبالَ الوجْهِ تبَعٌ لإقبالِ القلْبِ، ويَترتَّبُ على الأمْرينِ سَعْيُ البدَنِ؛ ولهذا قال: حَنِيفًا، أي: مُقبِلًا على اللهِ في ذلك، مُعرِضًا عمَّا سِواهُ [400] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 641). .
- و(حَنِيف): صِيغةُ مُبالَغةٍ في الاتِّصافِ بالحَنَفِ، وهو المَيلُ، وغلَبَ استِعمالُ هذا الوصْفِ في المَيلِ عن الباطلِ، أي: العُدولِ عنه بالتَّوجُّهِ إلى الحقِّ [401] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/89). .
- قوله: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ فِطْرَةَ اللَّهِ بدَلُ اشتِمالٍ مِن حَنِيفًا -على أحدِ الأقوالِ-؛ فهو في معنى الحالِ مِن (الدِّينِ) أيضًا، وهو حالٌ ثانيةٌ؛ فإنَّ الحالَ كالخبَرِ تَتعدَّدُ بدونِ عطْفٍ. وهذا أحسَنُ؛ لأنَّه أصرَحُ في إفادةِ أنَّ هذا الدِّينَ مُختَصٌّ بوَصفينِ؛ هما: التَّبرُّؤُ مِن الإشراكِ، ومُوافقَتُه الفِطرةَ؛ فيُفِيدُ أنَّه دِينٌ سَمْحٌ سهْلٌ، لا عنَتَ فيه [402] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/89). .
- وفي قولِه: الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا بَيانٌ لِمَعنى الإضافةِ في قولِه: فِطْرَةَ اللَّهِ، وتصْريحٌ بأنَّ اللهَ خلَقَ النَّاسَ سالِمةً عُقولُهم ممَّا يُنافي الفِطرةَ مِن الأديانِ الباطلةِ والعاداتِ الذَّميمةِ، وأنَّ ما يَدخُلُ عليهم مِن الضَّلالاتِ ما هو إلَّا مِن جرَّاءِ التَّلَقِّي والتَّعوُّدِ [403] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/92). .
- وقولُه: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ تَعْليلٌ للأمْرِ بلُزومِ فِطرتِه تعالَى، أو لِوُجوبِ الامتِثالِ به [404] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/60). .
- وأيضًا قولُه: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ جُملةٌ مُبيِّنةٌ لِمَعنى فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فهي جاريةٌ مَجرَى حالٍ ثالثةٍ مِن (الدِّينِ)، على تَقديرِ رابطٍ مَحذوفٍ، والتَّقديرُ: لا تَبْديلَ لِخلْقِ اللهِ فيه، أي: في هذا الدِّينِ. ويَجوزُ أنْ تَكونَ جُملةُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ مُعترِضةً؛ لإفادةِ النَّهيِ عن تَغييرِ خَلْقِ اللهِ فيما أودَعَه الفِطرةَ؛ فتَكونَ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ خبرًا مُستعمَلًا في معنَى النَّهيِ على وَجْهِ المُبالَغةِ، كقولِه: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] ؛ فنَفْيُ الجِنسِ مُرادٌ به جِنسٌ مِن التَّبديلِ خاصٌّ بالوصْفِ، لا نفْيُ وُقوعِ جِنسِ التَّبديلِ؛ فهو مِن العامِّ المُرادِ به الخُصوصُ بالقَرينةِ [405] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/93). .
- دلَّ قولُه: لِخَلْقِ اللَّهِ على أنَّ معنَى فِطْرَةَ اللَّهِ: الخَلْقُ، وأنَّه مِن إقامةِ المُظهَرِ مَوضِعَ المُضمَرِ مِن غيرِ لَفْظِه السَّابقِ، وفائدتُه: الإشعارُ بأنَّ أصْلَ الجِبِلَّةِ السَّليمةِ المُتهيِّئةِ لقَبولِ الحقِّ: ألَّا تُغيَّرَ ولا تُترَكَ لِمَحْضِ التَّقليدِ؛ فإنَّه مُجاوِبٌ للعقْلِ [406] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/479)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/244). .
- ولِعِظَمِ المقامِ كرَّرَ الاسمَ الأعظَمَ، فقال: لِخَلْقِ اللَّهِ [407] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/88). .
- والتَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ في قولِه: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ؛ لزِيادةِ تَمْييزِ هذا الدِّينِ مع تَعظيمِه [408] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/93). .
- قولُه: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ القيِّمُ: وصْفٌ بوزْنِ (فَيعِل)، مِثلُ هَيِّنٍ ولَيِّنٍ، يُفِيدُ قوَّةَ الاتِّصافِ بمَصْدَرِه، أي: البالِغُ قوَّةَ القيامِ، مِثلُ (استقامَ) الَّذي هو مُبالَغةٌ في (قام) [409] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/390)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/93). . وإطلاقُ القيِّمِ على الدِّينِ فيه تَشبيهُ انتفاءِ الخطَأِ عنه باستقامةِ العُودِ، وهو مِن تَشْبيهِ المَعقولِ بالمَحْسوسِ [410] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/93). .
- والاستِدراكُ في قولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِدفْعِ تَوهُّمِ واهِمٍ يقولُ: إذا كان هذا الدِّينُ هو دِينَ الفِطرةِ، وهو القيِّمُ؛ فكيف أعرَضَ كَثيرٌ مِن النَّاسِ عنه بعْدَ تَبليغِه؟! فاسْتدرَكَ ذلك بأنَّهم جُهَّالٌ لا عِلْمَ عِندَهم، فإنْ كان قد بلَغَهُم فإنَّهم جَهِلوا مَعانِيَه؛ لإعراضِهم عن التَّأمُّلِ، ولا يَعلَمون منه إلَّا ما لا يُفِيدُهم مُهِمَّهم؛ لأنَّهم لم يَسْعَوا في أنْ يَبلُغَهم على الوجْهِ الصَّحيحِ؛ ففِعلُ لَا يَعْلَمُونَ غيرُ مُتطلِّبٍ مَفعولًا، بلْ هو مُنزَّلٌ مَنزِلةَ اللَّازمِ؛ لأنَّ المعنى: لا عِلْمَ عِندَهم [411] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/94). .
2- قَولُه تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وحَّدَ الخِطابَ أوَّلًا في قولِه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، ثمَّ جمَعَ بعْدَ ذلك مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ؛ لأنَّه قد خُوطِبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوَّلًا، وخِطابُ الرَّسولِ خِطابٌ لِأُمَّتِه، مع ما فيه مِن التَّعظيمِ للإمامِ، ثمَّ جمَعَ بعْدَ ذلك؛ للبَيانِ والتَّلخيصِ [412] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/479)، ((تفسير البيضاوي)) (4/206)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/243)، ((تفسير أبي حيان)) (8/389)، ((تفسير أبي السعود)) (7/60)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/95). .
- والأمْرُ الَّذي في قولِه: وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ مُستعمَلٌ في طلَبِ الدَّوامِ [413] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/95). .
3- قَولُه تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
- قولُه: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أُعيدَ حَرفُ «مِن» في قَولِه تعالى: مِنَ الَّذِينَ؛ ليُبَيِّنَ أنَّ الثَّانيَ بَدَلٌ مِن الأوَّلِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، والبَدَلُ هو المقصودُ بالكَلامِ، وما قبْلَه تَوطِئةٌ له [414] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (5/265). ، وإظهارُ حرْفِ الجرِّ ثانيةً مع الاستِغناءِ عنه بالبدَليَّةِ، تأكيدٌ بإظهارِ العامِلِ [415] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/95). . وفائدةُ الإبدالِ التَّحذيرُ عن الانْتِماءِ إلى حِزبٍ مِن أحزابِ المشركينَ؛ ببَيانِ أنَّ الكلَّ على الضَّلالِ المُبِينِ [416] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/60، 61). .
- وجملةُ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ اعتِراضٌ مُقرِّرٌ لِمَضمونِ ما قبْلَه مِن تَفريقِ دِينِهم، وكَونِهم شِيَعًا [417] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/61). .
- وقيل: يَجوزُ أنْ يكونَ مِنَ الَّذِينَ مُنقطِعًا ممَّا قبْلَه، ومعناهُ: مِنَ المُفارقينَ دِينَهم كلُّ حِزْبٍ فَرِحينَ بما لَديهم؛ فكان مِن حقِّ الظَّاهرِ أنْ يُجَرَّ فَرِحُونَ؛ لِكَونِه صِفةَ حِزْبٍ؛ لأنَّ الصِّفةَ في الأعدادِ وما هو مِن قَبِيلِها يَنْبغي أنْ تكونَ للمُضافِ إليه؛ لقولِه تعالى: سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ [يوسف: 43] ، ولكنَّه وصَفَ هاهنا المُضافَ؛ لِيُبَيِّنَ أنَّ الفرَحَ شامِلٌ للكلِّ، وهو أبلَغُ [418] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/479)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/246)، ((تفسير أبي حيان)) (8/390، 391). .